مما يلفت الانتباه قدرتنا على تجاوز بعض”العتمات اللغوية” في الحوار؛ فبمجرد الخوض الشديد في الكلام، نتوقف للحظة بحثًا عن مفردات توافقية، وحيث تعجز لغتنا أحيانًا في التعبير عن مآسينا ومعاناتنا، نسيّج لغتنا بتأويلات شائكة ومربكة حول الحضارة والقيم الإنسانية، إذ ثمة حاجة ملحّة لتجريد كلماتنا من دلالتها الأصلية كخطوة بديلة لعدم الاعتراف بالآخر.

ومن أهمية اللغة ودورها في ملء “صحيفة بيضاء” على ألسن البشر وهم يسردون تاريخهم، تُساق المعاني إلى مقاصل تتوقف عندها البدايات، سائلة عن جوهر ارتباطنا مع الآخر، ومستعيدة أصواتنا التي تعبر الذاكرة نحو “معاني وافرة” للهامشي والمحظور.

أن يكون تاريخنا “لغة عابرة للذاكرة” في استحالتها الاعتراف من هجر عن أرضه مجرد سردية مضللة لعالم مثخن بالقهر والموت، وما تجليات سيرة الهامشي والإمبراطوري إلا إحالة على تقاعسنا عن التفكير في جدوى كتابة ذاكراتنا المقاومة

في المعنى
بإمكان الحروف أن تكتب معاني الحب والحياة، والكراهية والموت، في قوالب لغوية مبتكرة ومشتبكة بعضها مع بعض، ومتناقضة نوعا ما، مع ضرورة استخداماتنا البيانية لها، لكن ثمة حاجة ملحّة لتفكيك التعبير الصريح عن الأشياء، ليس وفق تأويلات ذاتية، بل من الآخر كموضوع إنساني، والذي تجاوزنا ضمن توصيف للفعل التواصلي، فكلماتنا ما زالت بتلك النفعية مع التطور الهائل والتسارع الرقمي والتكنولوجي، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي تناطح اللغة الهجائية، كونها الوسيلة الأكثر استخدامًا للتواصل، إذ باتت التعابير الإيحائية (الإيموجين) واللهجات الشعبية تلبي الرغبة في استدراج مشاعرنا المضمرة، واستظهار ما لا يمكن قوله، وعلى ذلك الأساس صيغت لغة تحاورية بين مكوناتنا الرقمية، تستطيع مختلف الألسن بموجبها التقرب من بعضها.

صاغت لغتنا معاني وافرة لعالم الأشياء، وحرستها طيلة قرون من الاستخدام البشري، فالبدايات كانت مع آلامنا، حيث تأخذ صرختنا الأولى عند بكاء الطفل وهو يستقبل الحياة، وما بين الديني المعلل من أنّها إيذاء من الشيطان، والتحليل العلمي المفسر لها بخروج الهواء من بطن الطفل، تتأتى أسئلة للمارين على عتبة البكاء: هل من الضرورة أن تكون البدايات تاريخًا معنونًا لحياتنا، بدل الأمل الذي يسود الإنسان؟ ومع أنّ البكاء لغة الأسى والخوف والموت، فهو ليس نهاية عالم فظيع متقلّب في الحروب، بل بمشيئة تخطينا الشّر القابع في ذواتنا.

كذلك ذاكرتنا، بوصفها الابن الشرعي للتأريخ الإنساني، فإنّها مرهونة بمدى سطوة العابرين على عتبات التاريخ، حتى لو تطلب الأمر التلفيق والإكراه من الآخر، إذ تتوقف مستويات التخييل اللغوي بتجريد ذواتنا المهمشة عن هويتها ولغتها التعبيرية، وما التاريخ إلا ظل العالم وهو يستجوب الحضارة ويبرر تصلبها، ومثلما تتصارع الثيران يتناطح التاريخان، الهامشي والعالمي، على إعادة إنتاج المظلومية، كما أنّه من المهم التمييز بين “فعل كتابة تاريخينا” و”ضرورة استدعاء ذاكرتنا للتعبير”، إذ هما حقلان متشابكان بقدر العنف والخوف اللذين ينجمان عن استغلالهما والإقرار بهما سياسيًّا.

فأن يكون تاريخنا “لغة عابرة للذاكرة” في استحالتها الاعتراف من هجر عن أرضه مجرد سردية مضللة لعالم مثخن بالقهر والموت، وما تجليات سيرة الهامشي والإمبراطوري إلا إحالة على تقاعسنا عن التفكير في جدوى كتابة ذاكراتنا المقاومة، وسبب في نهب تاريخنا المحلي.

بالمعنى الذي ترمز له لغتنا التواصلية مع الآخر المُهيمِن، يكمن مكر الحضارة في استيعابها القيم الإنسانية، وتطويعها بالبحث عن طرق للتفوّق الإمبراطوري؛ فالعدالة والكرامة والمقاومة تجاوزت معانيها العناوين الكبرى للانعتاق والحرية، نحو صور الموت والخوف، لتغدو تاريخًا مسجونًا في ذاكرة تفتقد أدنى مستويات الاعتراف والمحبة، وما تخلينا عن تحديد المعنى إلا لتكون “ذواتنا ذات أهمية” للذين لا يتوقون بحريتهم نحو خلاصهم الأبدي، ألم يُعلّم الغراب قابيل كيف يواري جثمان أخيه؟ لكنّه لم يستطع تخليصه من الخطيئة التاريخية، لكون الموت أسمى ما يجرّد الحياة حينما تعبُرها أصوات الحقيقة والحرية.

المصدر: الجزيرة نت